الاقتصاد الألماني على المحك فماذا ينتظر منطقة اليورو
الاقتصاد الألماني على المحك فماذا ينتظر منطقة اليورو
في بداية مقالي اود ان اعرف ألمانيا اقتصاديا وبإيجاز حتى يتسنى للجميع فهم السطور التالية ألمانيا هي الاقتصاد الأكبر في منطقة اليورو ورابع أكبر اقتصاد في العالم تصنف بين أكبر ثلاث دول في قطاع التصدير والاستيراد في العالم وتعتبر اجمالا صناعة السيارات والهندسة الميكانيكية وهندسة المصانع وصناعة الادوية والمستحضرات الطبية وصناعة الكيماويات والبناء وغيرها من بين القطاعات الناجحة بشكل خاص في السوق العالمية وتعتبر القوة الابتكارية للشركات الألمانية هي المحرِك للتنمية الاقتصادية للبلاد وسأكتفي بهذا القدر من التعريف المبسط لألمانيا حتى يتسنى للجميع فهم مجريات ما سأقوم بسرده لكم ،، في ملتقى الاقتصاد العالمي دافوس والذي يقام في سويسرا كل شهر يناير سنويا تحدث المستشار الألماني أولاف شولتز العام الماضي عن سرعة المانيا الجديدة التي من شأنها أن تضع معيارا للإصلاح والنمو الاقتصادي لكن الحقيقة وبعد مرور عام كامل على حديثه ظهر أكبر اقتصاد في أوروبا وكأنه "رجل أوروبا المريض" حيث انكمش الاقتصاد الالماني عام 2023 بنسبة 0.3 % مما يجعله الاقتصاد الرئيسي الأسوأ أداء في العالم وقد صاحب ذلك انتكاسات سياسية وإضرابات في مختلف أنحاء البلاد وانحدار حاد في شعبية الائتلاف الحاكم وواجه الاقتصاد الألماني مخاض أزمة عميقة في الميزانية نهاية العام الماضي بعد أن هدد حكم المحكمة الدستورية بشأن قيود الاقتراض الوطني بفجوة قدرها 17 مليار يورو في خطط إنفاق البلاد لعام 2024
وابدأ وأياكم باستعراض بعض الاحصائيات والاحداث والارقام الاقتصادية والمناخ العام في المانيا وكيفية انعكاس ذلك على اقتصاد منطقة اليورو ككل حيث انخفضت الصادرات الألمانية إلى الدول خارج الاتحاد الأوروبي في ديسمبر إلى أدنى مستوى لها منذ أن ضربت جائحة فيروس كورونا أوروبا في مارس 2020 بعد انخفاض حاد في الشحنات إلى الصين ويضاف انخفاض الصادرات الألمانية خارج الاتحاد الأوروبي في ديسمبر والتي انخفضت بنسبة 4 % عن الشهر السابق و1.7 % عن العام الماضي إلى الدلائل على أن أكبر اقتصاد في أوروبا عانى من تراجع حاد في نهاية العام الماضي وقال مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني إن الشحنات الألمانية إلى الصين ثاني أكبر سوق لها انخفضت بنسبة 12.7 % عن العام السابق وانخفضت الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة أكبر أسواقها بنسبة 9.9 % والجدير بالذكر ان ما يقارب من نصف الصادرات الألمانية تذهب إلى دول خارج الاتحاد الأوروبي ،، وخفض معهد IFO الألماني توقعات النمو للاقتصاد الالماني لعام 2024 إلى 0.7%، بانخفاض من 0.9% في منتصف ديسمبر وتراجعت ثقة الشركات الألمانية إلى أدنى مستوياتها منذ أكتوبر 2022 حيث تحولت الشركات الألمانية بشكل غير متوقع إلى مزيد من التشاؤم بشأن الاقتصاد منذ بداية العام حيث يهدد تزايد تعطل سلسلة التوريد وخفض الإنفاق الحكومي بإبقاء أكبر اقتصاد في أوروبا في حالة ركود وقال معهد IFO إن مؤشره لمناخ الأعمال انخفض 1.1 نقطة إلى 85.2 وهو أدنى مستوى له منذ أكتوبر 2022 .
وأظهرت أرقام مؤشر مناخ الأعمال الذي يحظى بمتابعة واسعة النطاق انخفاضا واضحا في ديسمبر وكانت معنويات قطاع البناء الألماني منخفضة بشكل خاص حيث وصلت المعنويات الحالية والمستقبلية للقطاع إلى أدنى مستوى لها منذ سبتمبر 2005 وتوقع حوالي نصف شركات البناء تدهور الأعمال بشكل أكبر وأظهرت بيانات منفصلة نشرها مكتب الإحصاء الضغط المتزايد على قطاع البناء في ألمانيا وإن عدد تراخيص المباني السكنية في الفترة من يناير إلى أكتوبر انخفض بنسبة 26.7 % عن نفس الفترة من العام السابق إلى 218100 ترخيص وانخفض تقييم الوضع التجاري الحالي بشكل ملحوظ في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة وتضرر قطاع العقارات وهو أحد المحركات الرئيسية للنمو في الاقتصاد الألماني من ارتفاع أسعار الفائدة وأظهرت بيانات مكتب الإحصاء أن تراخيص البناء، لبناء منازل لأسرة واحدة انخفضت بمعدل سنوي قدره 38.2 % وانخفضت تراخيص المنازل المكونة من عائلتين بنسبة 50.5 % وانخفضت المنازل متعددة الأسر بنسبة 25.2 % وانخفضت أسعار المنازل بمعدل سنوي بلغ نحو 10 % في النصف الثاني وهو أكبر انخفاض من أي دولة عضو أخرى
ومن المتوقع أن تتعرض الشركات الألمانية للإفلاس بمعدل أعلى هذا العام بعد الزيادة الحادة في حالات الإفلاس في عام 2023 حيث تضررت الشركات من ارتفاع تكاليف الطاقة وانتهاء المساعدات الوبائية ويحذر خبراء إعادة الهيكلة المالية من أن العديد من الشركات التي ظلت واقفة على قدميها بعد وباء فيروس كورونا من خلال المساعدات الحكومية السخية بدأت تنهار الآن ومنذ بداية هذا العام تقدمت العديد من الشركات الألمانية المعروفة بما في ذلك سلسلة المتاجر الكبرى جاليريا كارشتات كاوفهوف وشركة بري لصناعة الحقائب ومقرها هامبورج والتي من بين عملائها المستشار أولاف شولز بطلبات لإشهار إفلاسها وقد تضخمت صفوف الشركات المتعثرة بسبب الركود الاقتصادي في ألمانيا إلى جانب ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع الأجور وارتفاع أسعار الطاقة وضغط الميزانية الحكومية كل ذلك سيؤدي إلى ارتفاع حالات الإعسار بنسبة تتراوح بين 10 - 30 % هذا العام مما يجعلها أعلى من مستويات ما قبل الوباء وأظهرت الأرقام الصادرة عن وكالة الإحصاء أن عدد الشركات التي تقدمت بطلبات لإشهار إفلاسها في محاكم المقاطعات ارتفع بأكثر من 24 % في الأشهر العشرة حتى تشرين الأول مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022
وحذرت جمعية التأمين الألمانية مؤخرا من زيادة هائلة في حالات التخلف عن السداد بعد أن دفعت شركات التأمين الائتماني أكثر من 1.2 مليار يورو في عام 2023 بزيادة 44 % عن عام 2022 وقالوا إننا نرى ضررا أكبر وأكبر بكثير من حالات الإعسار والمدفوعات المتأخرة مقارنة بما حدث في عام 2022 لان الاقتصاد الضعيف يجعل من الصعب على الشركات تمرير ارتفاع تكاليف الطاقة والعمالة والمواد الخام عن طريق ارتفاع الأسعار ويتوقع أن ترتفع حالات الإعسار بأكثر من 30 % في عام 2024 بين الشركات التي تزيد إيراداتها السنوية عن 10 ملايين يورو وقد أضر ذلك أيضا في الاستثمار والتمويل بالشركات الصغيرة حيث تقدمت نحو 300 شركة ألمانية ناشئة بطلبات لإشهار إفلاسها العام الماضي بزيادة قدرها 65 % عن عام 2022 وكان من بينها شركة السيارات التي تعمل بالطاقة الشمسية سونو موتورز، وشركة سوشيال تشين للتجارة عبر الإنترنت وشركة تصنيع برامج مكافحة الاحتيال فراوغستر وكان هناك العديد من الشركات الكبرى التي تعرضت للإفلاس في العام الماضي مثل شركات بيع الأزياء بالتجزئة، ومقدمي خدمات النقل، وشركات العقارات، وموردي السيارات. وكانت هناك أيضا أعداد كبيرة من الانهيارات بين دور الرعاية والعيادات الألمانية
وبالانتقال الى ملف مهم اخر داخل المانيا فقد طالب اتحاد البناء الألماني بزيادة الأجور بأكثر من 20 % للعديد من عمال القطاع البالغ عددهم 930 ألف عامل وهو امر يثير مخاوف التضخم ويؤخر تخفيضات أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي الأوروبي وقالت النقابات العمالية إنها طلبت زيادة شهرية في الأجور قدرها 500 يورو لعمال البناء، مقدرا أن هذا من شأنه أن يرفع أجور غالبية العمال الأقل أجرا بنسبة 21 % حيث يحصل حوالي ثلثي عمال البناء الألمان على أقل من 3250 يورو شهريا - وهو ما يقرب من الحد الأدنى للأجور ويشكل هذا الطلب الذي جاء قبل المحادثات المقرر أن تبدأ مع أصحاب العمل في 22 فبراير والذي تم تقديمه نيابة عن جميع عمال البناء في البلاد مثالاً مثيراً للقلق لصانعي السياسات في البنك المركزي الأوروبي الذين قالوا إنهم يريدون رؤية علامات على اعتدال نمو الأجور قبل أن يفكروا في خفض الفائدة وأحد العوامل التي تعزز موقف الاتحاد هو أن قطاع البناء الألماني يواجه نقصا كبيرا في العمالة وأظهر استطلاع أجرته غرفة التجارة والصناعة الألمانية في نوفمبر أن ما يزيد قليلاً عن نصف شركات البناء في البلاد كانت تكافح لملء الشواغر ومن المتوقع أن ترتفع حالات الإعسار الألمانية مع انتهاء مساعدات كوفيد وركود الاقتصاد وقد حدد البنك المركزي الأوروبي خطر استمرار نمو الأجور في منطقة اليورو في التسارع بعد أن وصل إلى ما يزيد قليلاً عن 5 % العام الماضي باعتباره أحد العوامل الرئيسية التي قد تدفعه إلى تأخير خفض أسعار الفائدة وخلال اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي دافوس حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد من أن البنك المركزي لن يحصل على المعلومات التي يحتاجها بشأن ضغوط الأجور إلا بحلول "أواخر الربيع" وأن مثل هذه البيانات ستكون ضرورية قبل اتخاذ أي قرار لخفض تكاليف الاقتراض وهزت تعليقاتها الأسواق التي كانت قد أخذت في الاعتبار بالكامل خفض سعر الفائدة القياسي المرتفع للبنك المركزي البالغ 4 % بحلول أبريل
وبدأ يوم 24 يناير 2024 سائقو القطارات الألمان إضرابا بسبب ساعات العمل وهي الخطوة التي أصابت شبكة السكك الحديدية في البلاد بالشلل الامر الذي قد يكلف الاقتصاد المحلي ما يصل إلى مليار يورو ويعد الإضراب الذي دعت إليه نقابة سائقي القطارات هو الأطول في تاريخ شركة دويتشه بان مشغل السكك الحديدية المملوكة للدولة في ألمانيا منذ 30 عام وأثر ذلك على نقل البضائع وخدمات الركاب في عموم المانيا وقد أصيبت بعض الشرايين الحيوية في أوروبا بالضرر أيضا وأعلنت دويتشه بان أن نقل البضائع الأوروبية عبر جبال الألب أو بولندا أو الدول الاسكندنافية وكذلك الموانئ البحرية في هولندا أو بلجيكا قد تأثر وحذر قادة الأعمال من حدوث اضطراب كبير في وقت يعاني فيه اقتصاد البلاد من الركود بالفعل - الإضراب يعني قيودا صارمة وتخفيضات في الإنتاج وتوقفا في الصناعة التي هي في وضع هش بالفعل في ضوء الركود في الاقتصاد ،، وقال وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس إن "ألمانيا ليست رجل أوروبا المريض"، كما قال البعض بعد انكماش اقتصادها بنسبة 0.3 في المائة العام الماضي وقال إن البلاد بحاجة إلى تحسين إنتاجيتها من خلال الإصلاحات الهيكلية لتعزيز جانب العرض في اقتصادها مثل تحسين توافر العمالة والطاقة والتكنولوجيا الرقمية
ان من احد المشاكل الأساسية التي تواجهها ألمانيا أيضا هي اندفاعها المثالي نحو مصادر الطاقة المتجددة للحد من الانبعاثات الكربونية وهذه السياسات تدفع الصناعة إلى خارج ألمانيا وتجعل بقية الاقتصاد غير قادر على المنافسة لان كل أنواع الطاقة المتجددة تكلف ضعف ما كانت عليه من قبل وإمدادات الغاز الجديدة أيضا باهظة الثمن، وخسائر كبيرة في أسواق التصدير أمام المنافسة الصينية، وخسارة أسواق روسيا وإيران وأخيرا وليس آخرا الركود وبعبارة أخرى لم تعد الصادرات هي العامل الدافع كما كان سابقا وكما هو معروف ان لدى ألمانيا حوالي 30 محطة طاقة نووية ذات كفاءة في الانبعاثات وآمنة وتنافسية، وقد أغلقتها بدء من الحرب الباردة ولقد استبدلت هذه الطاقة عديمة الانبعاثات بواردات الغاز والطاقة والنفط من روسيا وأنفقت المليارات على مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح المتقطعة والمكلفة - وبعد الشرح المبسط أعلاه يظهر لنا جليا ان الغضب الشعبي يتصاعد وتزيد الاضطرابات من الشعور بأن الاقتصاد الألماني لا يعمل وقد تضررت الأسر والشركات بشدة بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة، والإنتاج الصناعي آخذ في الانخفاض وتكافح صناعة السيارات للمنافسة وسط اتجاه عالمي نحو السيارات الكهربائية وفي الوقت نفسه فإن النقص في المهارات مرتفع ولا يزال الاقتصاد يعتمد بشكل مفرط على التجارة مع الصين والبيع للصين بشروط نقل التكنولوجيا وزادت المشاحنات والحوادث السياسية الداخلية من الشكوك حول قدرة المسؤولين الالمان على قيادة البلاد إلى الأمام
وخلال اطلاعي وبحثي الدقيق اثناء كتابة هذا المقال على العديد من المصادر الإحصائية والأرقام الاقتصادية والبحوث المتقدمة أرى ان مشاكل سلاسل التوريد الناتجة عن عمليات الإغلاق الوبائية والحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة وارتفاع التضخم وتشديد السياسة النقدية والعديد من أوجه القصور الهيكلية التي لا زالت قائمة ستبقى تثير الأزمات والتحديات التي ستواجه الاقتصاد الألماني ولفترة طويلة وبالتالي ان انعكاس ذلك سيكون له تأثير واضح على كامل منطقة اليورو المنهكة أساسا باعتبار ان المانيا أكبر اقتصاد في كتلة اليورو وان عام 2024 هو عام حاسم ومهم للاقتصاد الألماني نحو تحقيق وإنجاز الإصلاحات الهيكلية التي تعد بها الحكومة الألمانية والا فسيكون لخلاف ذلك تأثيرات غير محمودة ابدا للاقتصاد الألماني خاصة ولمنطقة اليورو عامة .
وسلامتكم
المحلل المالي والتقني
عبد الرحمن الأصفر
Reply